السبت، 17 سبتمبر 2016

هذا أنا وهذا كل ما أريد

أنا لا أحب تجاوز مساحتى لدى الآخرين، أبقى دائماً على أطراف المشهد، لذا يقلقنى دفعى لعمقه بهيستريا مفتعلة، أقول أنى دائماً فى كامل وعيي حتى وأنا فى غيابات الوهم، وأنى استطيع أن تدبر الأمر وحدى، وحدى تماماً، والاستغناء عن أي شئ وكل شئ، الصمت ليوم أو اثنين أو حتى لأسبوع، أن أحرق أوراقي كاملة وأرحل، بلا تفكير أو تردد أو ندم، أنا أكثر خفة مما يظنون، أطفو على سطح الزمن، لا أنا فيه، ولا أنا خارجه، اعبر بينهم بلا ملامسة، وأمرر الأيام من ثقب ابرة، فلم يعد يؤذينى النسيان ولا المسافات ولا الصمت المفاجئ ولا كل تلك النظرات التى ترشق سهامها فيّ.

في داخل رأسي مساحة لا تطأها قدم بشر، منطقتي المحرمة، واديّ المقدس، الذى لم اسمح لأحد أبداً أن يقتحمه بهمجية، فقط لأنى استحق أن يبقى شئ في هذا العالم لي.

إن كنت قد فعلت الكثير لأجل الآخرين، فإني لا أريد أن اكتب لأجل أحد، أريد أن اكتب لي، للغرف المظلمة، وقطرات الماء المعلقة على فوهات الصنابير، للضوء الهارب من شقوق النوافذ، والقطط ذات الذيول المقطوعة، للأكواب الزجاجية التى تنفجر وحدها على رفوف النيش، لبقعة الدم على ثياب تلك الصغيرة التي تسير فى الطريق أمامي، لآخر قطعة معيوبة من فستان تشتريه طفلة مصابة بسرطان الدم، للظلام، والصمت، وقلب ريحانة الذى مازال ينبض فى جسد ما، أريد أن افعل ذلك برقة وعنف وهدوء.

رسائل إلى عالم آخر

لا أعرف بم يبدأ الآخرون رسائلهم عادة، ولكنى دائما في رسائلى إليك أبدأ من حيث انتهى الأمس، من الساعة التى مرت، والثانية التى تمر الآن.
لا شئ يبقى، أرددها دائمًا بلا وعى، وبلا شك. كل تلك الآشياء الرائعة ستنتهى، وكل تلك الحروب ستتوقف، سترحل الأحداث لتخلف لنا الذكريات والأشلاء، وكلاهما سواء، لا روح ولا أمل.
أنا لا أكره الحياة كما تعرف، أمنحها من نفسى ما يضمن لى حيزًا من السلام، والصمت، وأتلقى منها الصفعات واحدة تلو الأخرى بلا شكوى، تمر العواصف عليّ كل حين وآخر لتُحطم كل ما ظننت أنه ثابت، لتتركنى كما أنا الآن، هشًا أطفو على سطح الأحداث، مائعًا بلا تفسير، خارج حدود الحدث، والزمن، إن لزم الأمر.
نبقى صامتين لأعوام ثم نُلقى كل ما في جوفنا دفعة واحدة في وجه العابرين، فيبدو حديثنا جافًا حزينًا بلا معنى أو هدف، وتصمت الموسيقى في الخلفية لتجعلنا نبدو أكثر بؤسًا، وأكثر هشاشة، هكذا هي الأمور دائمًا يا عزيزي، نصمت طويلًا، طويلًا جدًا، ثم ينفجر الحديث بلا سبب، ثم نعود لصمتنا الآمن، فقط لأن الحديث يرهقنا ولا يُجدى نفعًا.
نستعين باللغة لنبدو أكثر قوة، لنصقل هشاشة قلوبنا التى تعرفت الدنيا عبر الشاشات اللامعة في منتصف الليل، يبدو أن هكذا تسير الأمور، جميعنا مجرد بقايا، بقايا أحلام تحتضر، وندوب هزائم لم يكن من الممكن تجاوزها، وآثار الأخطاء التى لم يكن أمامنا سوى السقوط عمدًا فيها، وذكريات لحظات الفرح الخافتة التى تفاجئنا بها الحياة.
تبدو الكلمات تائهه، بلا هدف أو وجهه، نرسلها إلى الفراغ علها تجد من تسعى إليه، تحترق النجوم في الأفق لتمنحنا روعة خيالية، ونحترق نحن لنمنح الآشياء سحرًا وروح، نقاوم كل ذلك العنف، ونتعامل مع الحياة برفقٍ يليق بنا ولا تستحقه، فقط لأننا نعجز عن افتعال الأذى، وعن إفلات أيدى الآخرين قبل تقديم اعتذارات مطولة، ودعم غير متناهى، حتى وإن كانت أياديهم جميعًا تكبلنا، ليس لأننا رائعين، لم نكن يومًا رائعين بما يكفى، فقط لأننا لا نجيد حياة الصخب، لذا نسكن الزوايا، ونبتعد عن أنظار الآخرين قدر استطاعتنا، ونلوذ بالصمت الذي يحيطنا بهالة مصتنعة من كل ما نكره، لنبقى أسرى أنفسنا للأبد، عاجزين أن نواجه، وأن نخطأ، وأن نحيا، ونرحل مكدسين بالحكايا التى لن تُحكى أبدًا.
تقول وأقول، ونفتعل حديثًا دراميًا لا هدف له، ونسير في طريق لا نرى له نهاية، نتبادل الكلمات التى لا تحمل معنى لأحدٍ سوانا، ونزرع أزهار النرجس المظلومة على جانب الطريق، نتبادل عناقًا طويلًا، وقبلة، ثم تأتى ريح الخريف، ليتلاشى كل شئ في ظلام الغرفة، ويبقى كلانا في عالمه شديد البعد، صامتًا، عاجزًا عن افتعال الدهشة.
والسلام . .

رسائل إلي عالم آخر

لا أعرف إن كانت الأمور تسرى معك على ما يرام، يكذب الناس كثيرًا -وأنت معهم- عندما يُسألون عن الحال، ويعتبرون إخفاء التعاسة تضحية يفوق ثوابها ثواب احتمال التعاسة ذاتها، إلا أنى أُرهقت من الكذب، من الإدعاء الدائم أن الأمور بخير، والحياة على ما يرام، والشمس مشرقة، والعصافير لا يُنذر فزعها بشؤم.
على أية حال أنا لست بخير تمامًا، أحاول جمع شتات أمرى، وكعادتى في كل مرة، أقف على بُعد خطوة واحدة من الهزيمة، يكفى خطأ واحد لافساد الأمر برمته، وكعادتى أسقط فيه، أحيانًا عن غير عمد، ودائما عن عمد بفعل الجزع، وينتهى بى الحال في شتات لا أرى له نهاية.
أنت هناك، وأنا هنا، وبيننا كل تلك المسافات، كل هؤلاء البشر، وكل ذلك الزيف، نلتقى في عوالم السحر وأروقة الخيال، لنسلك معًا الطرق الغير ممهدة، والممرات التى تسكنها الأشباح، أنت هناك وأنا هنا، وكلانا غارق تمامًا في الصمت، الصمت الذي يُزيد الحزن جلالًا، ويكسو عيوننا مسحة رومانسية قادمة من العصور الوسطى، هاربة من لوحة كلاسيكية لرسام مجهول.
في مديح عينيك المرهقتين قد اكتب مئات القصائد، ولا أعرف لم لا تُقدر عينيك تقديرًا خاصًا، هاتين الفتحتين الصغيرتين اللتان تراقب بهما العالم عن كثب، وتحفظ تفاصيله عن ظهر قلب.
تسوء الأمور يا عزيزى، وابتعد كل يوم عشر خطوات على الأقل عن ما أظن أنى أريده، أشعر بالإرهاق، وأعجز عن التشبث بأى خيط يُلقى أمامى، وأظن أنه لو أُلقىّ ما أريد الآن تحت قدمىّ، فإنى سأعجز حتى عن الانحناء لالتقاطه.
دائمًا أتمنى لك الهدوء الذي ترجوه، والسكينة التى تسعى إليها، في عالم آخر أقل صخبًا، وأكثر سلامًا، سأقترب، سأقترب لأربض على كتفك، لأخبرك أنك تستحق حياة أفضل، أما في عالمنا هذا، ففرصة التقاء عيوننا في شارع مزدحم تتساوى مع فرص أن يحصل بطوط على عمل مريح، بأجر ثابت، واجازة أسبوعية.
دعنا نتخفف من كل ذلك الزخرف الذي ينسجه البشر حولنا، نجلس على الرصيف في الفراغ بين سيارتين، نتبادل الحديث، الطعام، والسجائر إن لزم الأمر، نُلقى كل تلك الأحمال عن أكتافنا ونرحل، بلا وعود، بلا خطط مستقبلية، بلا أمل في أكثر من ذلك.
أثر القلم على أصابعك، ورتوش الحبر على باطن كفك، والتعب الذي يُثقل كاهلك، والفوضى التى تسكن أعماقك، كل ذلك يجعلك تبدو أكثر رقة، أكثر رقة من كل أولئك المنمقين، ولا أعرف إن كان ذلك سيسعدك، ولكنه يسعدنى.
أدعوك لقهوة في المقهى الذى خلقه هاروكى موراكامى في كافكا على الشاطئ، الذي استمع فيه لبيتهوڤين لأول مرة، نرشف هناك القهوة على مهل، "فالقهوة أخت الوقت كما تعرف"، ونبقى صامتين، ننهى القهوة ونتبادل عناقًا طويلًا ونرحل.
- Jan 2016

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

أشعر بالميت | صوفيا دى ميلو اندرسن


أشعر بالميت في برد البنفسج
وذلك الغموض العظيم للقمر
حُكم على الأرض أن تكون شبحًا
الأرض التى تؤرجح داخلها كل الموت
أعلم أنّنى أغني على جُرف الصمت
أعلم أنّنى أرقص في وقت التوقف
أننى أتملّك في أماكن التجرّد
أعلم أننى أسيرُ بالقرب من الميّت الصامت
وأحنل داخلى موتي
دون أن يشعر أحد
لكنّى خسرت نفسي داخل أنفس كثيرة
مِت لمرات كثيرة
قبّلت أشباحًا كثيرة
لم أتعرّف علي أخطاء كثيرة
وهذا الموت سيكون بسيطًا
كالخروج من البيت إلى وسط الشارع

الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

في المعدية

نرتدي ملابس ذات ألوان زاهية، وإكسسوارت تلمع في الشمس، ننتظر المعدية القادمة من البر الآخر للنيل، تعلو أصواتنا ضاحكات بينما نتذكر ذكريات لم يمض عليها ثلاثة أشهر، نحمل هدية لصديقتنا التي تزوجت منذ شهر، أجلنا الزيارة حتي تحولت لدعوة غداء، عاد زوجها للعمل، ويمكننا أن نقضي معاً أربع ساعات بلا إزعاج، ينظر إلينا منتظري المعدية بامتعاض واضح، لم نعرف له سبب، أتت المعدية وساعدنا بعضنا في القفز من المرسي إليها، مسافة لا تتجاوز العشر سنتيمترات، جعلتها أعين الركاب التي تتفحصنا تبدو أكثر اتساعاً ورعباً، السيدات اللاتي يبدون وكأنهن ينتظرن سقوطنا في الماء حتي تعلو أصواتهم قائلات “أحسن”، والرجال الذين ينتظرون إلينا بأطراف عيونهم بكراهية غير مبررة، تجعل الوضع مريباً، جلس ثلاثتنا في طرف المعدية، قرب الماء، تعلو أصوات ضحكاتنا ونحن نتحدث عن لألأة الماء وانعكاس ضوء الشمس عليها، عن ذكريات الدراسة، وكيف تعرفنا، لم أجد مبرراً للصمت الذي كان يسود المكان، ولا لنظرات الكراهية التي لاحقتنا، لا شئ فينا يبدو خاطئاً، فقط نضحك، كنا محملات بقدر من الفرح لم أدركه منذ زمن، نسيت كل شئ، كل تلك الأشياء التي تنتظرني عندما أعود، ووصايا أمي بعدم التأخير، كل شئ تلاشي بمجرد لقائنا.
لم يستغرق الأمر ثلاث دقائق لنصل للبر الآخر، ساعدنا بعضنا في النزول، وصعدنا – مستمرين في الضحك – سلماً أوصلنا للشارع، تجاهلنا نظرات العابرين، وأصحاب المحال، وسائقي السيارات، ووصلنا بعد بحث وضحك لشقة صديقتنا، لا أعرف إن كانت صديقتي تستخدم معطراً للجو ضمن مكوناته غاز الضحك؟ أو أنها وضعت شيئاً ما في طعامها اللذيذ جعلنا لا نستطيع التوقف عن الضحك؟ ثلاث ساعات مرت سريعاً ولم أقض مثلها في حياتي، أعددنا الغداء معاً، شاهدنا شقتها، ضحكنا بسبب وبدون، ثلاث ساعات أنهتها أمهاتنا باتصالات متتالية لأن “المغرب أذن”، الإتصالات التي نبهتنا أنّا لا يمكننا الإنفصال عن عوالمنا للأبد، استأذنا بسرعة، ركبنا المصعد في صمت، وعبرنا شارع صديقتنا الفرعي إلي الشارع الرئيسي مسرعين صامتين، اقترحت إحدانا أن نركب “توك توك” للمعدية، بدت لي الفكرة مبهجة، فوافقت، لكنها لم تكن كذلك، انظر صامتة للشارع الذي قطعته ضاحكة، يمضي مسرعاً، بدا لي الأمر وكأنه شريط ڤيديو نمرره للوراء، تنتهي بهجتنا ليعود كل منا لمشكلاته، ومسئولياته التي لن تنتهي، بدا الطريق أكثر وحشة، أنزلنا “التوك توك” عند سلم المعدية الذي بدا مرعباً في الظلام، نزلناه حذرين نُسند بعضنا بعضاً، قفزنا إلي المعدية، كانت المسافة بين المرسي والمعدية أكثر اتساعاً، رغم ذلك لم تكن مرعبة، بين الركاب الصامتين جلسنا في ذات مكاننا الأول، بدت وجوهوهم في ضوء الأصفر للمبة الوحيدة أكثر إرهاقاً، يرتدون ملابس تتدرج بين الرمادي والأسود، وتبدو رقة الحال علي الغالبية، تنظر لنا السيدة التي ترتدي خماراً رمادياً ونظارات في عطف، وتبدو نظرات الرجال أقل كراهية، الحركة الخفيفة للنيل في الظلام وانعكاس الأضواء عليه جعلته رومانسياً، موسيقي ما تتردد داخلي، تزاحمها تخيلاتي لعتاب أمي علي التأخير وقلقي أن يكون الطريق للمنزل مزدحماً فأتأخر أكثر.
جدير بهذا المشهد أن يكون مشهد نهاية في فيلم ما.
ليكن فيلم قصير.
وليكن السيناريو لكاتب مغمور، يبحث عن النص الذي سيُدخله التاريخ، يتخيل نفسه واقفاً ليتسلم البوكر العالمية وسط تصفيق حاد، بينما يلقي كلمة خالدة عن الكتابة شهوتها وشغفها.
 وليكن الإخراج طالب كلية قمة كان حلمه دراسة الإخراج، درسه بعد إتمام دراسته الأولي وقرر أن يجرب حظه.
وليكن المشهد هكذا، صورة بكاميرا رديئة لثلاثتنا، ننظر في إتجاة واحد نتأمل حركة الماء، بينما يسري في الهواء صوت موسيقي يؤلفها طالب غريب الأطوار في كلية العلوم قسم الرياضيات البحتة، يقترب الكادر من وجه كل منا علي حدى، ننظر في صمت للبر الآخر، وكأنا نستعد لحمل مسئولياتنا التي إتفقنا ضمنياً علي تركها هناك، ثم يتسع الكادر لينتهي مع تحرك المعدية – بينما تعلو الموسيقي – ليشمل الركاب الذين ينظرون إلي ثلاثتنا بشفقة، تستدير الكاميرا تجاه النيل لينزل تتر النهاية بينما تقترب المعدية من البر الآخر.

المطر الأول

أجلس علي ركبتيّ علي الفراش أسفل نافذة غرفتي، أفتح جزءاً واحداً من أجزاء الشيش الأربعة، أفعل ذلك برفق وصمت، أمد يدي خارجاً، لتتساقط عليها قطرات مطر خفيفة، يضيئ البرق السماء والشارع والغرفة، فأسحب يدي بسرعة وابتسم، أخرجها ثانية وأبقيها لمدة أطول، أسحبها وأضيئ هاتفي، أري موضع القطرات، وألعقها بلساني، ثم أضحك، ألمح ظل أحدهم في ضوء مصباح خافت، وضعه جارنا بدلاً من عمود الإنارة الذي قضي عليه الزمن، أختبأ تحت النافذة، وأسحب الشيش المفتوح برفق، انظر من فتحة صغيرة، جارنا العجوز عائد من صلاة الفجر، انتظر حتي اسمع صوت اغلاقه لبوابة منزله، ثم أعود وافتح النافذة، احدق في السماء، وانتظر البرق، اُخرج رأسي قليلاً، تتساقط قطرات المطر بين خصلات شعري، يُخيل لي أني عندما سأنظر في المرآة سأجد أزهاراً نبتت في رأسي عند موضع كل قطرة، اختبأ كلما مر عجوز عائد من المسجد القريب، يُخيل لي أن الوقت ملائم للتفكير في أمر مهم، مطر خفيف، رعد وبرق، وصوت ديك الجيران وقرآن مسجد بعيد، مشهد المنزل القديم الذي توقف هدمه بعد خلاف الورثة، وبيوت الطوب الأحمر المتآكل، أبراج الحمام، وكل هذة النوافذ المغلقة، وكل هؤلاء البشر النائميين، طقوس تليق برواية عن قرية منسية، أتذكر ماركيز، أفكر أن ماكوندو قد تكون وُجدت في رأسه في أجواء كتلك، ماركيز بدأ من هنا، أقولها وأضحك، أتخيل أنه يجب عليّ أن أفكر مثلاً في جدوى حياتي، أو في كل تلك القصص التي تخفيها تلك النوافذ، أو في شئ ما رومانسي، لكني لم أفعل، لم استطع أن أفكر سوى في أني أريد أن أبقي هكذا للأبد، أحدق في السماء بحثاً عن البرق، ألعق قطرات المطر من كفي، وأتحسس شعري المبلل لأتأكد أن الأزهار لم تنبت فيه، وأختبأ كلما مر في شارعنا عجوز صامت، أن أبقى في هذا السلام الذي لم أعرفه منذ زمن .

هلاوس

أسوء الصباحات هو ذلك الذي تستيقظ فيه من نومك بسبب صداع لا تعرف له سبب، عقلي يعشق تضخيم الأمور، ينطلق فوراً في خيالاته عن ورم ما في رأسي ينتشر ويكبر واكتشفه متأخراً فأموت، لو كنت راغبةً في البكاء لأكملت الفيلم للنهاية وتفننت في تخيل مشهد موتي ولكني لا أرغب في ذلك.
ابتلع حبتين من المسكن وما أن يصل الماء جوفي حتي يبدأ رأسي في خيالاته المعتادة، ماذا لو لم يكن هذا الدواء مسكن؟ ماذا لو أن صاحب مصنع الأدوية كان يريد قتل العالم، فأضاف مادة سُمية ما بدلاً من المادة الفعالة للدواء؟ يتطلب الأمر اختبارات ما قبل طرح الدواء للمرضي ولكن ماذا لو كان من يُجري الاختبارات مرتشياً، يستدعي شر صاحب المصنع خيراً موازياً في رأسي، أبدأ في اعداد فريق لمواجهة هذة الكارثة، قناص وكيميائي وطبيب وعبقري برمجيات، سيكون ذلك كافياً مبدئياً، تناديني أمي فأجيبها بنصف وعي، تسرد حديثاً طويلاً أتجاهل معظمه، التقط خواتيم الجمل واخمن ما سبق، تنهي كلامها فأعود إلي هلاوسي، فتبدو باهتة، تكررت في ألف فيلم، فأتركها تتلاشي.
أقرر أن انتصر علي الصداع باليوجا، أمارس اليوجا في محاولة للسيطرة علي أي شئ، أنصح بها الجميع حتي كرهوها تماماً فأصبحت لي وحدي، تشكو أمي من آلالام ظهرها وركبتيها فأنصحها أن تجد وقتاً فارغاً وتأتيني لأعلمها اليوجا، تشكو صديقة من اضطرابات في النوم فأرسل لها ڤيديو ليوجا قد تساعدها، لو اشتكي لي أحدهم أن منزله احترق وعائله شُردت وفقد وظيفته لجلست القرفصاء علي الأرض وقلت له “تعالي بس اقعد جنبي كدا” فلنمارس اليوجا سوياً.
أفرد سجادة صلاة علي الأرض لأبدأ ممارستي بوضعية الكوبرا،افكر أني احتاج سجادة يوجا وأن ثروتي تبلغ خمسمائة جنية مصري، أضعها في برطمان نسكافية فارغ حولته إلي حصالة، مُخبأ في مكان يعرفه الجميع، في الرف الثاني من الدولاب، أؤمن أنه إذا أردت إخفاء شئ ما، فما عليك سوي وضعه في ميدان عام، أحاول التركيز علي التنفس، وأغير الوضعية، الفكرة في اليوجا أن تتخلص من التركيز مع العالم الخارجي، تركز مع التنفس، مع أعماقك، حتي تصل للسلام، أمارس اليوجا علي فترات، ولا أنال منها إلا الفوائد الجسدية والإستغراق التام في الخيالات التي لا تنتهي.
أفكر أني يجب أن استغل ثروتي تلك استغلالاً أمثل، أملك التزاماً اجتماعياً بهدايا لأعياد ميلاد ومناسبات خاصة، أتمني تجاهلها، قررت أني سأوقف نزيف أموالي بالاشتراك في نظام استعارة في مكتبة ما، أحب فكرة أن تقرأ كتاباً لمسه مئات قبلك، أن تتحسس بصمات أصابعهم، وتري خطوطاً باهتة وضعوها تحت كلمات بعينها، ينتابني لحظتنا شعور بالود، أن أرواح أخرين مرت من هنا، أريد أن اشتري أشياءاً تبلغ الألف جنية، وفي الوقت ذاته أريد أن احتفظ بأموالي تلك للسفر إلي مكان ما، أقرر أنه ينبغي أن يهدأ عقلي قليلا فأعود وأغمض عيني وأحاول التركيز علي التنفس، ثلاث دقائق ويتلاشي التركيز، أفكر في رحلة إلي تونس ومنها إلي المغرب، ثم منها إلي أوروبا ثم أعود برحلة بحرية إلي الاسكندرية، تتدافع الصور في رأسي، ويبدو الأمر مبهجاً، فابتسم، أحاول أن أتجاهل ذلك فافتح عيني وأركز في نقطة واحدة في الجدار، تسقط عيني علي شق في دهان الغرفة، أركز لدقائق، ثم أتخيله يتسع، تخرج منه عناكب ذات أحجام مختلفة، تنتشر في كل مكان في خفة مرعبة، تسكن كل شئ، الوسائد، الفراش، يُخيل إليّ أن لهم حفيف أفعي، وأن لهم عيوناً تحدق فيّ وأشعر بحركة أطرافهم علي جسدي فأرتعد، اُبعد شئ ما ليس موجود عن ذراعي في فزع، أقوم وأنفض ملابسي والسجادة وانظر للأرض من حولي فلا أجد أثراً لشئ، أتحرك في هدوء نحو الشق في الحائط، أتحسسه بأطراف أصابعي في حذر، فأجده لا يتجاوز طبقة الدهان، فأطمئن.
أجلس علي أرض الغرفة مسندةً ظهري للحائط، وتنتابني لحظات من الحزن لأني لم أعد أستطيع التركيز في شئ، تتلاشي حين أشعر أن الغرفة أصبحت أضيق، أفكر أنه ينبغي عليّ أن أوفر مساحة أكبر فيها، انظر للأرض الخشبية وأتخيل أنها توفر عليّ نصف الطريق لأحصل علي الغرفة التي أريدها، انظر للدولاب وافكر أني أكره كل ما هو دولاب، تلك الدواليب هي سبب فساد النظام الاقتصادي العالمي وتعاسة البشرية، دعه يتلاشي، أحذفه من الصورة واستبدله برفوف سوداء تلائم دهان الغرفة الأبيض، احذف كل ملابسي واحتفظ بالقليل جدا، احذف سرير أختي من الغرفة، احذف المكتبة الصغيرة واستبدلها بأخري سوداء معلقة علي الحائط، احتفظ بسريري واستبدل ملاءته بأخري بيضاء وغطاء رمادي، زهرة واحدة بيضاء في كوب زجاجي علي رف جوار السرير، ودهان الغرفة الأبيض أكتر سطوعاً، تبدو الصورة الخيالية مريحة لدرجة تدعوني للتنفس بعمق، ماذا لو حكم العالم minimalist؟
صوت أمي يناديني ليسحبني بقوة من هلاوسي، تعاتبني علي أشياء كان ينبغي أن أفعلها ولم أكملها، تردد أشياءاً لا تعنيني عن إكمال الشئ لآخره وإتقانه وأنه “مينفعش كدا” أرد “هوا مفيش حد غيري بيكروت في البيت دا ولا إيه؟!” فتضحك طويلاً وتخبرني أنها ستتولي إكمال الأمر وأنه يمكنني أن أعود لما كنت أفعل، أتمتم “من قال أنني جئت"