الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

في المعدية

نرتدي ملابس ذات ألوان زاهية، وإكسسوارت تلمع في الشمس، ننتظر المعدية القادمة من البر الآخر للنيل، تعلو أصواتنا ضاحكات بينما نتذكر ذكريات لم يمض عليها ثلاثة أشهر، نحمل هدية لصديقتنا التي تزوجت منذ شهر، أجلنا الزيارة حتي تحولت لدعوة غداء، عاد زوجها للعمل، ويمكننا أن نقضي معاً أربع ساعات بلا إزعاج، ينظر إلينا منتظري المعدية بامتعاض واضح، لم نعرف له سبب، أتت المعدية وساعدنا بعضنا في القفز من المرسي إليها، مسافة لا تتجاوز العشر سنتيمترات، جعلتها أعين الركاب التي تتفحصنا تبدو أكثر اتساعاً ورعباً، السيدات اللاتي يبدون وكأنهن ينتظرن سقوطنا في الماء حتي تعلو أصواتهم قائلات “أحسن”، والرجال الذين ينتظرون إلينا بأطراف عيونهم بكراهية غير مبررة، تجعل الوضع مريباً، جلس ثلاثتنا في طرف المعدية، قرب الماء، تعلو أصوات ضحكاتنا ونحن نتحدث عن لألأة الماء وانعكاس ضوء الشمس عليها، عن ذكريات الدراسة، وكيف تعرفنا، لم أجد مبرراً للصمت الذي كان يسود المكان، ولا لنظرات الكراهية التي لاحقتنا، لا شئ فينا يبدو خاطئاً، فقط نضحك، كنا محملات بقدر من الفرح لم أدركه منذ زمن، نسيت كل شئ، كل تلك الأشياء التي تنتظرني عندما أعود، ووصايا أمي بعدم التأخير، كل شئ تلاشي بمجرد لقائنا.
لم يستغرق الأمر ثلاث دقائق لنصل للبر الآخر، ساعدنا بعضنا في النزول، وصعدنا – مستمرين في الضحك – سلماً أوصلنا للشارع، تجاهلنا نظرات العابرين، وأصحاب المحال، وسائقي السيارات، ووصلنا بعد بحث وضحك لشقة صديقتنا، لا أعرف إن كانت صديقتي تستخدم معطراً للجو ضمن مكوناته غاز الضحك؟ أو أنها وضعت شيئاً ما في طعامها اللذيذ جعلنا لا نستطيع التوقف عن الضحك؟ ثلاث ساعات مرت سريعاً ولم أقض مثلها في حياتي، أعددنا الغداء معاً، شاهدنا شقتها، ضحكنا بسبب وبدون، ثلاث ساعات أنهتها أمهاتنا باتصالات متتالية لأن “المغرب أذن”، الإتصالات التي نبهتنا أنّا لا يمكننا الإنفصال عن عوالمنا للأبد، استأذنا بسرعة، ركبنا المصعد في صمت، وعبرنا شارع صديقتنا الفرعي إلي الشارع الرئيسي مسرعين صامتين، اقترحت إحدانا أن نركب “توك توك” للمعدية، بدت لي الفكرة مبهجة، فوافقت، لكنها لم تكن كذلك، انظر صامتة للشارع الذي قطعته ضاحكة، يمضي مسرعاً، بدا لي الأمر وكأنه شريط ڤيديو نمرره للوراء، تنتهي بهجتنا ليعود كل منا لمشكلاته، ومسئولياته التي لن تنتهي، بدا الطريق أكثر وحشة، أنزلنا “التوك توك” عند سلم المعدية الذي بدا مرعباً في الظلام، نزلناه حذرين نُسند بعضنا بعضاً، قفزنا إلي المعدية، كانت المسافة بين المرسي والمعدية أكثر اتساعاً، رغم ذلك لم تكن مرعبة، بين الركاب الصامتين جلسنا في ذات مكاننا الأول، بدت وجوهوهم في ضوء الأصفر للمبة الوحيدة أكثر إرهاقاً، يرتدون ملابس تتدرج بين الرمادي والأسود، وتبدو رقة الحال علي الغالبية، تنظر لنا السيدة التي ترتدي خماراً رمادياً ونظارات في عطف، وتبدو نظرات الرجال أقل كراهية، الحركة الخفيفة للنيل في الظلام وانعكاس الأضواء عليه جعلته رومانسياً، موسيقي ما تتردد داخلي، تزاحمها تخيلاتي لعتاب أمي علي التأخير وقلقي أن يكون الطريق للمنزل مزدحماً فأتأخر أكثر.
جدير بهذا المشهد أن يكون مشهد نهاية في فيلم ما.
ليكن فيلم قصير.
وليكن السيناريو لكاتب مغمور، يبحث عن النص الذي سيُدخله التاريخ، يتخيل نفسه واقفاً ليتسلم البوكر العالمية وسط تصفيق حاد، بينما يلقي كلمة خالدة عن الكتابة شهوتها وشغفها.
 وليكن الإخراج طالب كلية قمة كان حلمه دراسة الإخراج، درسه بعد إتمام دراسته الأولي وقرر أن يجرب حظه.
وليكن المشهد هكذا، صورة بكاميرا رديئة لثلاثتنا، ننظر في إتجاة واحد نتأمل حركة الماء، بينما يسري في الهواء صوت موسيقي يؤلفها طالب غريب الأطوار في كلية العلوم قسم الرياضيات البحتة، يقترب الكادر من وجه كل منا علي حدى، ننظر في صمت للبر الآخر، وكأنا نستعد لحمل مسئولياتنا التي إتفقنا ضمنياً علي تركها هناك، ثم يتسع الكادر لينتهي مع تحرك المعدية – بينما تعلو الموسيقي – ليشمل الركاب الذين ينظرون إلي ثلاثتنا بشفقة، تستدير الكاميرا تجاه النيل لينزل تتر النهاية بينما تقترب المعدية من البر الآخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق