في المساحة المألوفة من عالمها المظلم تبدأ رحلتها اليومية الشاقة، من فراشها في الطابق الثانى للشرفة المطلة على حديقة المنزل، عبر باب الغرفة إلي اليسار، ثم مسافة العد من صفر إلى عشرين، ثم إلي اليمين عبر درجات السلم الخشبيّ العشر.
في ثوب نومها الأبيض ذو الطراز القديم تتحسس الجدران بأطراف أناملها، بخطوات ثقيلة حذرة تتجه صوب الشرفة، لتزيح الستائر إلي اليسار قليلًا، وتفتح زجاج النافذة برفق ودون جلبة، فينساب هواء الفجر هادئًا وخفيفًا، تتحسس الأرض بأصابع قدميها العاريتين بحثًا عن عتبة الشرفة، تتجاوزها بحذر بينما تستند بيمناها إلى الجدار، تحرك يسراها في الهواء بحثًا عن شئ، فتصتدم بظهر كرسيها الهزاز، تقترب، تمرر أصابعها على مقعده وتجلس بحذر، تسند ظهرها برفق إلي الكرسي، ثم تغرق في الفراغ المظلم أمامها، تُنصت إلي زقزقة عصافير الحديقة التي تبدأ هادئة رقيقة كعزف هادئ على الكمان، ثم تستحيل عزفًا عنيفًا لا يُحتمل بدءًا من الظهيرة وحتى الغروب.
أماندا التي جاوزت الخامسة والسبعين من عمرها، والتي انتظرت عودة زوجها من خدمة عسكرة عشرة أعوام حتى أعلنت الحكومة موته، واعتبرته شهيدًا للواجب، فقدت بصرها منذ خمسة أعوام فقط إثر مرض ألّم بها، أماندا تنتظر سكينة اللحظات الأولى لبزوغ الفجر كل يوم، فلا صراخ لأحفادها من ابنها الوحيد، ولا صراخ لأبناء الجيران، أو أبواق السيارات المُفزعة، ولا حركة دائمة لزوجة ابنها التي يشعرها دائمًا أنها بلا نفع.
في ثوب نومها الأبيض ذو الطراز القديم تتحسس الجدران بأطراف أناملها، بخطوات ثقيلة حذرة تتجه صوب الشرفة، لتزيح الستائر إلي اليسار قليلًا، وتفتح زجاج النافذة برفق ودون جلبة، فينساب هواء الفجر هادئًا وخفيفًا، تتحسس الأرض بأصابع قدميها العاريتين بحثًا عن عتبة الشرفة، تتجاوزها بحذر بينما تستند بيمناها إلى الجدار، تحرك يسراها في الهواء بحثًا عن شئ، فتصتدم بظهر كرسيها الهزاز، تقترب، تمرر أصابعها على مقعده وتجلس بحذر، تسند ظهرها برفق إلي الكرسي، ثم تغرق في الفراغ المظلم أمامها، تُنصت إلي زقزقة عصافير الحديقة التي تبدأ هادئة رقيقة كعزف هادئ على الكمان، ثم تستحيل عزفًا عنيفًا لا يُحتمل بدءًا من الظهيرة وحتى الغروب.
أماندا التي جاوزت الخامسة والسبعين من عمرها، والتي انتظرت عودة زوجها من خدمة عسكرة عشرة أعوام حتى أعلنت الحكومة موته، واعتبرته شهيدًا للواجب، فقدت بصرها منذ خمسة أعوام فقط إثر مرض ألّم بها، أماندا تنتظر سكينة اللحظات الأولى لبزوغ الفجر كل يوم، فلا صراخ لأحفادها من ابنها الوحيد، ولا صراخ لأبناء الجيران، أو أبواق السيارات المُفزعة، ولا حركة دائمة لزوجة ابنها التي يشعرها دائمًا أنها بلا نفع.
تمر الدقائق الأولى لبزوغ الفجر خفيفة، وتمتد يد أماندا الملطخة بالبقع البنية والمكسوة بالجلد المجعد إلى رأسها تتحسسه بحثًا عن دبوس شعرها المربوط لأعلى، تنزعه، وتحل شعرها الفضي وتتركه ينساب على كتفيها وذراعيّ الكرسي، لتبدو تجاعيد في وجهها أكثر وضوحًا وإيلامًا، ويبدو الزمن محرجًا أمام بقايا فتنة جمالها الهادئ.
في صمت عالمها شديد العتمة تلوح أمامها هالات زرقاء وأرجوانية، وتعود الحديقة إلي سابق عهدها، تملأها أزهار الجاردينيا البيضاء وأشجار التوت البريّ، وعند الباب يظهر الرجل الذي انتظرته أماندا طويلًا، انتظرته حتى أضحى الانتظار حالها الوحيدة، في بزته العسكرية، بذراع أيسر مكسورة ومعلق إلي صدره، وبحقيبته التي رحل بها يوم رحل، مهترئة، ومعلقة على ذراعه الايمن، تحدق أماندا فيه، وهي لا تزال مستندة بظهرها إلي الكرسي، بعينين مفتوحتين، أفقدهما الألم والانتظار بريقهما المميز، يتجاوز الباب ويقف في منتصف الحديقة، يضع أحماله على الأرض، ويفرد ذراعه اليمنى مبتسمًا ومنتصرًا، موجهًا ناظريه إلي أماندا، التي تبتسم وتمتلأ عينيها بالدمع، ترفع يمناها تجاهه، فيعود العالم مظلمًا وأشد عتمة، تُغمض عينيها وتتنفس بعمق، فينساب دمعها دافئًا يملأ تجاعيد وجهها الهادئ، تتميز أولى خيوط ضوء الفجر على استحياء، بينما تتنفس أماندا بعمق، أنفاسها الأخيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق