الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

في المعدية

نرتدي ملابس ذات ألوان زاهية، وإكسسوارت تلمع في الشمس، ننتظر المعدية القادمة من البر الآخر للنيل، تعلو أصواتنا ضاحكات بينما نتذكر ذكريات لم يمض عليها ثلاثة أشهر، نحمل هدية لصديقتنا التي تزوجت منذ شهر، أجلنا الزيارة حتي تحولت لدعوة غداء، عاد زوجها للعمل، ويمكننا أن نقضي معاً أربع ساعات بلا إزعاج، ينظر إلينا منتظري المعدية بامتعاض واضح، لم نعرف له سبب، أتت المعدية وساعدنا بعضنا في القفز من المرسي إليها، مسافة لا تتجاوز العشر سنتيمترات، جعلتها أعين الركاب التي تتفحصنا تبدو أكثر اتساعاً ورعباً، السيدات اللاتي يبدون وكأنهن ينتظرن سقوطنا في الماء حتي تعلو أصواتهم قائلات “أحسن”، والرجال الذين ينتظرون إلينا بأطراف عيونهم بكراهية غير مبررة، تجعل الوضع مريباً، جلس ثلاثتنا في طرف المعدية، قرب الماء، تعلو أصوات ضحكاتنا ونحن نتحدث عن لألأة الماء وانعكاس ضوء الشمس عليها، عن ذكريات الدراسة، وكيف تعرفنا، لم أجد مبرراً للصمت الذي كان يسود المكان، ولا لنظرات الكراهية التي لاحقتنا، لا شئ فينا يبدو خاطئاً، فقط نضحك، كنا محملات بقدر من الفرح لم أدركه منذ زمن، نسيت كل شئ، كل تلك الأشياء التي تنتظرني عندما أعود، ووصايا أمي بعدم التأخير، كل شئ تلاشي بمجرد لقائنا.
لم يستغرق الأمر ثلاث دقائق لنصل للبر الآخر، ساعدنا بعضنا في النزول، وصعدنا – مستمرين في الضحك – سلماً أوصلنا للشارع، تجاهلنا نظرات العابرين، وأصحاب المحال، وسائقي السيارات، ووصلنا بعد بحث وضحك لشقة صديقتنا، لا أعرف إن كانت صديقتي تستخدم معطراً للجو ضمن مكوناته غاز الضحك؟ أو أنها وضعت شيئاً ما في طعامها اللذيذ جعلنا لا نستطيع التوقف عن الضحك؟ ثلاث ساعات مرت سريعاً ولم أقض مثلها في حياتي، أعددنا الغداء معاً، شاهدنا شقتها، ضحكنا بسبب وبدون، ثلاث ساعات أنهتها أمهاتنا باتصالات متتالية لأن “المغرب أذن”، الإتصالات التي نبهتنا أنّا لا يمكننا الإنفصال عن عوالمنا للأبد، استأذنا بسرعة، ركبنا المصعد في صمت، وعبرنا شارع صديقتنا الفرعي إلي الشارع الرئيسي مسرعين صامتين، اقترحت إحدانا أن نركب “توك توك” للمعدية، بدت لي الفكرة مبهجة، فوافقت، لكنها لم تكن كذلك، انظر صامتة للشارع الذي قطعته ضاحكة، يمضي مسرعاً، بدا لي الأمر وكأنه شريط ڤيديو نمرره للوراء، تنتهي بهجتنا ليعود كل منا لمشكلاته، ومسئولياته التي لن تنتهي، بدا الطريق أكثر وحشة، أنزلنا “التوك توك” عند سلم المعدية الذي بدا مرعباً في الظلام، نزلناه حذرين نُسند بعضنا بعضاً، قفزنا إلي المعدية، كانت المسافة بين المرسي والمعدية أكثر اتساعاً، رغم ذلك لم تكن مرعبة، بين الركاب الصامتين جلسنا في ذات مكاننا الأول، بدت وجوهوهم في ضوء الأصفر للمبة الوحيدة أكثر إرهاقاً، يرتدون ملابس تتدرج بين الرمادي والأسود، وتبدو رقة الحال علي الغالبية، تنظر لنا السيدة التي ترتدي خماراً رمادياً ونظارات في عطف، وتبدو نظرات الرجال أقل كراهية، الحركة الخفيفة للنيل في الظلام وانعكاس الأضواء عليه جعلته رومانسياً، موسيقي ما تتردد داخلي، تزاحمها تخيلاتي لعتاب أمي علي التأخير وقلقي أن يكون الطريق للمنزل مزدحماً فأتأخر أكثر.
جدير بهذا المشهد أن يكون مشهد نهاية في فيلم ما.
ليكن فيلم قصير.
وليكن السيناريو لكاتب مغمور، يبحث عن النص الذي سيُدخله التاريخ، يتخيل نفسه واقفاً ليتسلم البوكر العالمية وسط تصفيق حاد، بينما يلقي كلمة خالدة عن الكتابة شهوتها وشغفها.
 وليكن الإخراج طالب كلية قمة كان حلمه دراسة الإخراج، درسه بعد إتمام دراسته الأولي وقرر أن يجرب حظه.
وليكن المشهد هكذا، صورة بكاميرا رديئة لثلاثتنا، ننظر في إتجاة واحد نتأمل حركة الماء، بينما يسري في الهواء صوت موسيقي يؤلفها طالب غريب الأطوار في كلية العلوم قسم الرياضيات البحتة، يقترب الكادر من وجه كل منا علي حدى، ننظر في صمت للبر الآخر، وكأنا نستعد لحمل مسئولياتنا التي إتفقنا ضمنياً علي تركها هناك، ثم يتسع الكادر لينتهي مع تحرك المعدية – بينما تعلو الموسيقي – ليشمل الركاب الذين ينظرون إلي ثلاثتنا بشفقة، تستدير الكاميرا تجاه النيل لينزل تتر النهاية بينما تقترب المعدية من البر الآخر.

المطر الأول

أجلس علي ركبتيّ علي الفراش أسفل نافذة غرفتي، أفتح جزءاً واحداً من أجزاء الشيش الأربعة، أفعل ذلك برفق وصمت، أمد يدي خارجاً، لتتساقط عليها قطرات مطر خفيفة، يضيئ البرق السماء والشارع والغرفة، فأسحب يدي بسرعة وابتسم، أخرجها ثانية وأبقيها لمدة أطول، أسحبها وأضيئ هاتفي، أري موضع القطرات، وألعقها بلساني، ثم أضحك، ألمح ظل أحدهم في ضوء مصباح خافت، وضعه جارنا بدلاً من عمود الإنارة الذي قضي عليه الزمن، أختبأ تحت النافذة، وأسحب الشيش المفتوح برفق، انظر من فتحة صغيرة، جارنا العجوز عائد من صلاة الفجر، انتظر حتي اسمع صوت اغلاقه لبوابة منزله، ثم أعود وافتح النافذة، احدق في السماء، وانتظر البرق، اُخرج رأسي قليلاً، تتساقط قطرات المطر بين خصلات شعري، يُخيل لي أني عندما سأنظر في المرآة سأجد أزهاراً نبتت في رأسي عند موضع كل قطرة، اختبأ كلما مر عجوز عائد من المسجد القريب، يُخيل لي أن الوقت ملائم للتفكير في أمر مهم، مطر خفيف، رعد وبرق، وصوت ديك الجيران وقرآن مسجد بعيد، مشهد المنزل القديم الذي توقف هدمه بعد خلاف الورثة، وبيوت الطوب الأحمر المتآكل، أبراج الحمام، وكل هذة النوافذ المغلقة، وكل هؤلاء البشر النائميين، طقوس تليق برواية عن قرية منسية، أتذكر ماركيز، أفكر أن ماكوندو قد تكون وُجدت في رأسه في أجواء كتلك، ماركيز بدأ من هنا، أقولها وأضحك، أتخيل أنه يجب عليّ أن أفكر مثلاً في جدوى حياتي، أو في كل تلك القصص التي تخفيها تلك النوافذ، أو في شئ ما رومانسي، لكني لم أفعل، لم استطع أن أفكر سوى في أني أريد أن أبقي هكذا للأبد، أحدق في السماء بحثاً عن البرق، ألعق قطرات المطر من كفي، وأتحسس شعري المبلل لأتأكد أن الأزهار لم تنبت فيه، وأختبأ كلما مر في شارعنا عجوز صامت، أن أبقى في هذا السلام الذي لم أعرفه منذ زمن .

هلاوس

أسوء الصباحات هو ذلك الذي تستيقظ فيه من نومك بسبب صداع لا تعرف له سبب، عقلي يعشق تضخيم الأمور، ينطلق فوراً في خيالاته عن ورم ما في رأسي ينتشر ويكبر واكتشفه متأخراً فأموت، لو كنت راغبةً في البكاء لأكملت الفيلم للنهاية وتفننت في تخيل مشهد موتي ولكني لا أرغب في ذلك.
ابتلع حبتين من المسكن وما أن يصل الماء جوفي حتي يبدأ رأسي في خيالاته المعتادة، ماذا لو لم يكن هذا الدواء مسكن؟ ماذا لو أن صاحب مصنع الأدوية كان يريد قتل العالم، فأضاف مادة سُمية ما بدلاً من المادة الفعالة للدواء؟ يتطلب الأمر اختبارات ما قبل طرح الدواء للمرضي ولكن ماذا لو كان من يُجري الاختبارات مرتشياً، يستدعي شر صاحب المصنع خيراً موازياً في رأسي، أبدأ في اعداد فريق لمواجهة هذة الكارثة، قناص وكيميائي وطبيب وعبقري برمجيات، سيكون ذلك كافياً مبدئياً، تناديني أمي فأجيبها بنصف وعي، تسرد حديثاً طويلاً أتجاهل معظمه، التقط خواتيم الجمل واخمن ما سبق، تنهي كلامها فأعود إلي هلاوسي، فتبدو باهتة، تكررت في ألف فيلم، فأتركها تتلاشي.
أقرر أن انتصر علي الصداع باليوجا، أمارس اليوجا في محاولة للسيطرة علي أي شئ، أنصح بها الجميع حتي كرهوها تماماً فأصبحت لي وحدي، تشكو أمي من آلالام ظهرها وركبتيها فأنصحها أن تجد وقتاً فارغاً وتأتيني لأعلمها اليوجا، تشكو صديقة من اضطرابات في النوم فأرسل لها ڤيديو ليوجا قد تساعدها، لو اشتكي لي أحدهم أن منزله احترق وعائله شُردت وفقد وظيفته لجلست القرفصاء علي الأرض وقلت له “تعالي بس اقعد جنبي كدا” فلنمارس اليوجا سوياً.
أفرد سجادة صلاة علي الأرض لأبدأ ممارستي بوضعية الكوبرا،افكر أني احتاج سجادة يوجا وأن ثروتي تبلغ خمسمائة جنية مصري، أضعها في برطمان نسكافية فارغ حولته إلي حصالة، مُخبأ في مكان يعرفه الجميع، في الرف الثاني من الدولاب، أؤمن أنه إذا أردت إخفاء شئ ما، فما عليك سوي وضعه في ميدان عام، أحاول التركيز علي التنفس، وأغير الوضعية، الفكرة في اليوجا أن تتخلص من التركيز مع العالم الخارجي، تركز مع التنفس، مع أعماقك، حتي تصل للسلام، أمارس اليوجا علي فترات، ولا أنال منها إلا الفوائد الجسدية والإستغراق التام في الخيالات التي لا تنتهي.
أفكر أني يجب أن استغل ثروتي تلك استغلالاً أمثل، أملك التزاماً اجتماعياً بهدايا لأعياد ميلاد ومناسبات خاصة، أتمني تجاهلها، قررت أني سأوقف نزيف أموالي بالاشتراك في نظام استعارة في مكتبة ما، أحب فكرة أن تقرأ كتاباً لمسه مئات قبلك، أن تتحسس بصمات أصابعهم، وتري خطوطاً باهتة وضعوها تحت كلمات بعينها، ينتابني لحظتنا شعور بالود، أن أرواح أخرين مرت من هنا، أريد أن اشتري أشياءاً تبلغ الألف جنية، وفي الوقت ذاته أريد أن احتفظ بأموالي تلك للسفر إلي مكان ما، أقرر أنه ينبغي أن يهدأ عقلي قليلا فأعود وأغمض عيني وأحاول التركيز علي التنفس، ثلاث دقائق ويتلاشي التركيز، أفكر في رحلة إلي تونس ومنها إلي المغرب، ثم منها إلي أوروبا ثم أعود برحلة بحرية إلي الاسكندرية، تتدافع الصور في رأسي، ويبدو الأمر مبهجاً، فابتسم، أحاول أن أتجاهل ذلك فافتح عيني وأركز في نقطة واحدة في الجدار، تسقط عيني علي شق في دهان الغرفة، أركز لدقائق، ثم أتخيله يتسع، تخرج منه عناكب ذات أحجام مختلفة، تنتشر في كل مكان في خفة مرعبة، تسكن كل شئ، الوسائد، الفراش، يُخيل إليّ أن لهم حفيف أفعي، وأن لهم عيوناً تحدق فيّ وأشعر بحركة أطرافهم علي جسدي فأرتعد، اُبعد شئ ما ليس موجود عن ذراعي في فزع، أقوم وأنفض ملابسي والسجادة وانظر للأرض من حولي فلا أجد أثراً لشئ، أتحرك في هدوء نحو الشق في الحائط، أتحسسه بأطراف أصابعي في حذر، فأجده لا يتجاوز طبقة الدهان، فأطمئن.
أجلس علي أرض الغرفة مسندةً ظهري للحائط، وتنتابني لحظات من الحزن لأني لم أعد أستطيع التركيز في شئ، تتلاشي حين أشعر أن الغرفة أصبحت أضيق، أفكر أنه ينبغي عليّ أن أوفر مساحة أكبر فيها، انظر للأرض الخشبية وأتخيل أنها توفر عليّ نصف الطريق لأحصل علي الغرفة التي أريدها، انظر للدولاب وافكر أني أكره كل ما هو دولاب، تلك الدواليب هي سبب فساد النظام الاقتصادي العالمي وتعاسة البشرية، دعه يتلاشي، أحذفه من الصورة واستبدله برفوف سوداء تلائم دهان الغرفة الأبيض، احذف كل ملابسي واحتفظ بالقليل جدا، احذف سرير أختي من الغرفة، احذف المكتبة الصغيرة واستبدلها بأخري سوداء معلقة علي الحائط، احتفظ بسريري واستبدل ملاءته بأخري بيضاء وغطاء رمادي، زهرة واحدة بيضاء في كوب زجاجي علي رف جوار السرير، ودهان الغرفة الأبيض أكتر سطوعاً، تبدو الصورة الخيالية مريحة لدرجة تدعوني للتنفس بعمق، ماذا لو حكم العالم minimalist؟
صوت أمي يناديني ليسحبني بقوة من هلاوسي، تعاتبني علي أشياء كان ينبغي أن أفعلها ولم أكملها، تردد أشياءاً لا تعنيني عن إكمال الشئ لآخره وإتقانه وأنه “مينفعش كدا” أرد “هوا مفيش حد غيري بيكروت في البيت دا ولا إيه؟!” فتضحك طويلاً وتخبرني أنها ستتولي إكمال الأمر وأنه يمكنني أن أعود لما كنت أفعل، أتمتم “من قال أنني جئت"

في الملاهى


هي ليست ملاهي بالشكل الذي تمثله الكلمة، هي فقط مجموعة من الألعاب شبة المحطمة، جمعوها في حديقة صغيرة، لتكون متنفس لمدينة تختنق.
يضج المكان بالأطفال الذين يركضون دوماً والأباء الذين يصرخون دوماً.
أشرد دائما في وجوه العابرين، في المبانى، في حركة الألعاب المنتظمة، أشعر وكأني أبحث عن شئ ما، لا أعرف ما هو، “أي حاجة والنبي يا أبله” هكذا أفقت، أيدي صغيرة متسخة تشد ثيابي، صبي يتعدي طوله ركبتيّ بسنتيمترات قليلة، ملابس متسخة، ووجه لم ترحمه الشمس، شعره أملس، متسخ، شديد السواد، يملك عينين لا أنسى بريقهما المربك، أعطيه الفشار في يدي في ارتباك، وأبحث في حقيبتي عن أي حاجة، “أنا عايز تذكرة لعبة” تجمدت مكاني للحظة ثم “ماشي، بتيجي منين دي؟” أشار إلي حيث يجلس رجل يمسك دفتراً للتذاكر الزرقاء، سرنا معاً، اشترتها وأعطيتها له، أخذها وركض، راقبته يختفي وسط الزحام.
تناسيت المشهد، وركبت اللعبة التي يُفترض أنها الأكثر صعوبة في المكان، العروس التى ترقص فتنشر الفزع والصراخ، أغمضت عينيّ بينما فستانها يعلو ويهبط ويدور، يأتى الناس هنا ليصرخوا، ليكون الصراخ مبرراً، ولكنى لا اصرخ على أية حال، أفسد الصغير عليّ يومي، كلما أغمض عينيّ أراه.
أنهيت اللعبة مستاءة من كل شئ، لمحته، يقف وسط زحام الناس حول لعبة السيارات، يمسك بالتذكرة الزرقاء، متأهباً لينال سيارة بعد نهاية الدور، وقفت أراقبه بينما ينتهي الدور، ويجري هو مسرعاً ناحية سيارة فيها طفل في مثل عمره، شعره بني ووجه أسمر، ملامحه أكثر براءة وأقل دهاءاً، ويرتدى ذات الثياب المتسخة، ترك له السيارة وجري مسرعاً، التفت نحوه، ذهب تجاه أسرة صغيرة، أب وأم وطفلة، هادئاً طلب تذكرة، وقف أمامهم ماداً يده الصغيرة، ارتبكت الأم، أعطي الأب التذكرة لابنته لتعطيها للصغير البرئ، زكاة البهجة، أخذ الصغير التذكرة، وجاء مسرعاً تجاه اللعبة، تبادل الزوجان نظرات الأسي، ومسحا رأس الصغيرة.
اندس بين الزحام يراقب صديقه، ويحييه كمشجع وفي، بينما يصدم الآخر سيارات أطفال مهذبين، بملابس نظيفة وشعر لامع، ينظرون إليه باشمئزاز، بينما يصدمهم بمهارة مرات عديدة، يخرج لهم لسانه ويرد تحية صديقه كزعيم منتصر.
ينتهي الدور، يتبادل الصغيران الأماكن، يلعب أحدهما الدور، ويركض الآخر ليتسول تذكرة، وهكذا، يتسولان البهجة، يحاربان الشقاء الذي فُرض عليهما مبكراً، مبكراً جداً.
أبغض التكرار، أشعر وكأنهما سيستمران هكذا للأبد، ولا أعرف لم لا تمطر السماء ألعاباً للصغار البائسين؟ لم لا يترك لهم بابا نويل الألعاب مخبأةً في جوارب قرب رؤوسهم التي اعتادت نوم الأرصفة؟
ابتعد، واختنق، ولأول مرة أتمني من الدنيا مالاً، مالاً كثيراً، لأبني ملاهي توزع البهجة في كل مدينة بائسة.

أثر الفراشة

يجلس ماركيز على كرسى للصيد، يُدخن التبغ في غليونه، وطُعم صنارته تراقص عند وسط البحيرة، أمر جواره، أحمل صنارتى، أُحييه، وأُعرف نفسى، واستئذن للجلوس جواره، لا يرد، فأجلس على الأرض، صامتًا يتأمل الطُعم بعينين ثاقبتين، يتجاهلنى وكأنه لا يرانى، “الجو ساحر هنا” “هل هذة البحيرة في أطراف ماكوندو؟” “ما نوع الأسماك التى تحيا هنا؟” “هل سنغرق إن سقطنا هنا؟” أُلقى العديد من الأسئلة الساذجة دفعة واحدة عله يلتفت إليّ، ولكنه لا يفعل، أصمت، أُجهز صنارتى وأحاول إلقاء طُعمى في الماء إلى نفس بُعد طعمه، ولكن ينتهى الحال بخطاف صنارتى مشتبكًا بفرع شجرة ورائى، “الحظ السئ يطاردنى هذة الأيام” أذهب لتخليص الشجرة من خطافى، أعيد ضبط الصنارة، وأمسك الخطاف وأقترب من حافة البحيرة وأنحنى لأغطسه في الماء واتركه، فيضحك، ابتسم وأعود لأجلس جواره، يأخذ الماء طُعم صنارتى إلى داخل الماء قليلًا، أبقى صامته، أتأمل طُعمى يؤدي في الماء رقصة من نوع خاص، تندفع موسيقى بيتهوڤين صافية كما لم أسمعها من قبل، كأنها تنبع من أعماق الأشجار العملاقة التى تحيط بنا، أو تفوح في عطر النرجس البريّ، “سوناتا ضوء القمر” أقول، “يبدو العالم أكثر رقة مما ينبغى عليه أن يكون” اتنفس بعمق، اشعر بالهواء خفيفًا ومُعطر وأشعر بمرور الزمن رقيقًا وهادئًا كنسمة تداعب عُنقى وكأنه يعتذر عن الرحيل، “أنا دائمًا أُفسد الأمور، ورغم كل هذا الكذب أشعر وكأن داخلى يختنق”- “قد تكون أشد لحظات حياتك صدقًا” يقول
= لا اعتقد
-أنا أفعل
= لم أعد أؤمن بالسحر
- وأنا أؤمن أنه يسكن أكثر التفاصيل بشاعة.
يقولها ويسحب صنارته، ليخرج خطافها حاملًا عصفور، التفت سريعًا اليه فيتلاشى.

أماندا

في المساحة المألوفة من عالمها المظلم تبدأ رحلتها اليومية الشاقة، من فراشها في الطابق الثانى للشرفة المطلة على حديقة المنزل، عبر باب الغرفة إلي اليسار، ثم مسافة العد من صفر إلى عشرين، ثم إلي اليمين عبر درجات السلم الخشبيّ العشر.
في ثوب نومها الأبيض ذو الطراز القديم تتحسس الجدران بأطراف أناملها، بخطوات ثقيلة حذرة تتجه صوب الشرفة، لتزيح الستائر إلي اليسار قليلًا، وتفتح زجاج النافذة برفق ودون جلبة، فينساب هواء الفجر هادئًا وخفيفًا، تتحسس الأرض بأصابع قدميها العاريتين بحثًا عن عتبة الشرفة، تتجاوزها بحذر بينما تستند بيمناها إلى الجدار، تحرك يسراها في الهواء بحثًا عن شئ، فتصتدم بظهر كرسيها الهزاز، تقترب، تمرر أصابعها على مقعده وتجلس بحذر، تسند ظهرها برفق إلي الكرسي، ثم تغرق في الفراغ المظلم أمامها، تُنصت إلي زقزقة عصافير الحديقة التي تبدأ هادئة رقيقة كعزف هادئ على الكمان، ثم تستحيل عزفًا عنيفًا لا يُحتمل بدءًا من الظهيرة وحتى الغروب.
أماندا التي جاوزت الخامسة والسبعين من عمرها، والتي انتظرت عودة زوجها من خدمة عسكرة عشرة أعوام حتى أعلنت الحكومة موته، واعتبرته شهيدًا للواجب، فقدت بصرها منذ خمسة أعوام فقط إثر مرض ألّم بها، أماندا تنتظر سكينة اللحظات الأولى لبزوغ الفجر كل يوم، فلا صراخ لأحفادها من ابنها الوحيد، ولا صراخ لأبناء الجيران، أو أبواق السيارات المُفزعة، ولا حركة دائمة لزوجة ابنها التي يشعرها دائمًا أنها بلا نفع.
تمر الدقائق الأولى لبزوغ الفجر خفيفة، وتمتد يد أماندا الملطخة بالبقع البنية والمكسوة بالجلد المجعد إلى رأسها تتحسسه بحثًا عن دبوس شعرها المربوط لأعلى، تنزعه، وتحل شعرها الفضي وتتركه ينساب على كتفيها وذراعيّ الكرسي، لتبدو تجاعيد في وجهها أكثر وضوحًا وإيلامًا، ويبدو الزمن محرجًا أمام بقايا فتنة جمالها الهادئ.
في صمت عالمها شديد العتمة تلوح أمامها هالات زرقاء وأرجوانية، وتعود الحديقة إلي سابق عهدها، تملأها أزهار الجاردينيا البيضاء وأشجار التوت البريّ، وعند الباب يظهر الرجل الذي انتظرته أماندا طويلًا، انتظرته حتى أضحى الانتظار حالها الوحيدة، في بزته العسكرية، بذراع أيسر مكسورة ومعلق إلي صدره، وبحقيبته التي رحل بها يوم رحل، مهترئة، ومعلقة على ذراعه الايمن، تحدق أماندا فيه، وهي لا تزال مستندة بظهرها إلي الكرسي، بعينين مفتوحتين، أفقدهما الألم والانتظار بريقهما المميز، يتجاوز الباب ويقف في منتصف الحديقة، يضع أحماله على الأرض، ويفرد ذراعه اليمنى مبتسمًا ومنتصرًا، موجهًا ناظريه إلي أماندا، التي تبتسم وتمتلأ عينيها بالدمع، ترفع يمناها تجاهه، فيعود العالم مظلمًا وأشد عتمة، تُغمض عينيها وتتنفس بعمق، فينساب دمعها دافئًا يملأ تجاعيد وجهها الهادئ، تتميز أولى خيوط ضوء الفجر على استحياء، بينما تتنفس أماندا بعمق، أنفاسها الأخيرة.